تفاوت النمو بين الشمال والجنوب: المجال المتوسطي نموذجا
ملخص الوحدة:
يتسم المجال العالمي بتباين قوي في النمو بين دول الشمال ودول الجنوب اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا. وتعتبر المنطقة المتوسطية مثالا صارخا لهذه الظاهرة، إذ تتميز بتفاوت كبير بين قسميها الشمالي الأوربي والجنوبي الأفروأسيوي. ولتخفيف هذا التباين أطلق التعاون الأورومتوسطي. فما هي خصائص موقع المجال المتوسطي ؟ وأين تتجلى مظاهر التفاوت في النمو بين شماله وجنوبه ؟ وما حصيلة التعاون الأورومتوسطي وآفاقه المستقبلية ؟
1. توطين المجال المتوسطي ووصف بعض مميزاته الطبيعية والبشرية
1.1. توطين المجال المتوسطي جغرافيا
يمتد المجال المتوسطي بين عرضي 21 و°48 شمالا، ومابين °40 شرقا و°17 غربا. ويوجد بذلك في ملتقى قارات أوربا وإفريقيا وآسيا. وإذا كان هذا المجال يضم البحر الأبيض المتوسط الذي يشكل عموده الفقري، فإنه يطل على المحيط الأطلنتي غربا، والبحر الأحمر في الجنوب الشرقي، ثم البحر الأسود في الشمال الشرقي. وتحتل المنطقة المتوسطية موقعا استراتيجيا بوجودها في محور رئيسي من محاور الملاحة العالمية، ولتحكمها أيضا في مضاييق ومميزات بحرية حيوية، كمضيق جبل طارق، والبوسفور، والدردنيل، وممر قناة السويس. كما أن موقع المجال المتوسطي يجعله في منطقة احتكاك واتصال بين عالمين متباينين في النمو الاقتصادي والاجتماعي هما العالم النامي في الجنوب والشرق، والعالم المتقدم في الشمال.
2.1. وصف بعض المميزات العامة الطبيعية والبشرية للمجال المتوسطي
يتصف المجال المتوسطي بقلة السهول وسيادة التضاريس الهضبية والجبلية كالسلسلة الأطلسية، والبرانس وجبال الألب، وجبال طوروس، إضافة إلى طغيان الأراضي الصحراوية في القسم الجنوبي. ويسود به المناخ المتوسطي مع غلبة المناخ الصحراوي في الجنوب والشرق، بينما ينتشر المناخ المعتدل في الشمال. وعموما فإن الإمكانات التي يوفرها هذا الوسط الطبيعي تبقى ضئيلة وشحيحة، نظرا لسيادة الأراضي غير الصالحة للاستغلال، مع تفاوت في نسبتها ما بين القسمين الشمال (%73) والجنوبي (%86).
من الناحية البشرية، يتسم المجال المتوسطي بتباين الخصائص السكانية ما بين الشمال والجنوب، نظرا لاختلاف النظم الديموغرافية بهما. فالقسم الجنوبي أكثر عددا من حيث السكان، وله بنية ديموغرافية فتية، ونمو سكاني سريع نسبيا (%1.65). بينما يبدو القسم الشمالي أقل حجما من حيث عدد السكان، ويتصف بتركيبة سكانية تسود فيها فئتي الكهول والشيوخ، ويعزى ذلك إلى عوامل اقتصادية واجتماعية وثقافية. ومن حيث التوزيع الجغرافي للسكان، فهؤلاء يتركز أغلبهم في السواحل المتوسطية والأطلنتية، وتبرز هذه الظاهرة أكثر في القسم الجنوبي بفعل تأثير عوامل طبيعية وتاريخية واقتصادية. هناك خاصية سكانية أخرى، هي أن المجال المتوسطي يعتبر من بين المناطق التي تشهد على الصعيد العالمي أكبر حركة للهجرات السكانية الدولية بشكليها القانون (المنظم) والسري. ويفسر ذلك بتباين النمو بين الشمال والجنوب المتوسطيين.
وعموما فإن لتباين الخصائص الطبيعية والبشرية بين ضفتي المجال المتوسطي تأثير واضح على تفاوت درجة النمو بينهما. وزاد العامل التاريخي، وخصوصا ظاهرة الاستعمار، في تعميق الهوة بينهما.
2. المجال المتوسطي مثال للتفاوت الصارخ بين بلدان الشمال والجنوب اقتصاديا واجتماعيا
1.2. تفاوت كبير بين الشمال والجنوب المتوسطيين في الإنتاج الاقتصادي والمبادلات التجارية
من حيث الإنتاج الاقتصادي تتجلى مظاهر التفاوت في المنطقة المتوسطية في كافة القطاعات؛ ففي الفلاحة يحتل الشمال المتوسطي مركز الصدارة في كافة المنتجات الزراعية والحيوانية، ولا تبرز مكانة الجنوب المتوسطي إلا في تربية الأغنام. ويفسر هذا التفاوت بعوامل عدة: طبيعية حيث أن الإمكانات الطبيعية بالشمال المتوسطي أوفر مما هي عليه بالجنوب المتوسطي. وبعوامل تنظيمية وتقنية، فالفلاحة في القسم الأوربي تعتمد على سياسات هيكلية وتوظيف مكثف للبحث الزراعي والتقني؛ فيما ظلت الفلاحة بالجنوب المتوسطي أقل تجهيزا، وتعتمد على زراعات بورية وتسويقية (بواكر، كروم…).
وفي الصناعة تبدو هوة التفاوت أكثر عمقا نظرا لتفاوت السياسات واركائز الصناعية. فإذا كان الجنوب المتوسطي يتوفر على موارد وإمكانات طبيعية هائلة من مصادر الطاقة والمعادن مقارنة بالشمال، فإن النشاط الصناعي يبدو ضعيفا ويرتكز بالدرجة الأولى على الصناعات الاستخراجية والتحويلية والاستهلاكية. أما في دول الشمال، فرغم افتقارها للموارد الطبيعية، فإن أسس التصنيع بها متينة تعتمد على الصناعات الأساسية والمتطورة والدقيقة كالتكنولوجيا الحيوية والإلكترونيك والتجهيزية.
ويبدو عدم التكافؤ أكثر على مستوى المبادلات التجارية؛ فبلدان الجنوب المتوسطي تصدر نحو جاراتها الشمالية المنتجات الفلاحية والمعدنية والطاقية ومواد استهلاكية كالنسيج؛ وكلها مواد ذات قيمة تجارية منخفضة. بينما تصدر بلدان الشمال المتوسطي نحو الجنوب المنتجات المصنعة من معدات وآلات ميكانيكية وتكنولوجية ذات القيمة العالية. لذلك فوضعية الميزان التجاري يكون في صالح بلدان الشمال وسالب بالنسبة لأغلب بلدان الجنوب. ويعيش الجنوب المتوسطي في حالة تبعية تجارية للشمال حيث أن حوالي %55 من مبادلاته الخارجية تتم مع الشمال، في الوقت الذي لا تتعدى فيه نسبة مبادلات الشمال نحو الجنوب %5. وتفسر هذه الوضعية غير المتكافئة بعوامل تاريخية (الاستعمار)، واقتصادية (تفاوت الوزن الاقتصادي بين الجانبين، نوعية الصادرات والواردات…).
2.2. مظاهر التباين بين بلدان المجال المتوسطي على مستوى الدخل والمؤشرات الاجتماعية الأخرى
ينعكس تباين الأوضاع الاقتصادية داخل المجال المتوسطي على تفاوت الوضع الاقتصادي والاجتماعي لسكانه. وعموما تسجل بلدان الشمال المتوسطي ارتفاعا كبيرا في الناتج الداخلي الخام خصوصا في فرنسا وإيطاليا وإسبانيا، بينما ينخفض هذا المؤشر فيبلدان البلقان والجنوب والشرق المتوسطيين. وبالنسبة للدخل الفردي فهو مرتفع جدا في بلدان الشمال حيث يتعدى على العموم عتبة 10000 دولار للفرد الواحد، بينما هو منخفض في دول الجنوب والتي قل ما يتعدى فيها مستوى 5000 دولار للفرد سنويا.
وينعكس تفاوت مستوى الدخل على تباين مستوى التنمية البشرية بين الجانبين؛ فارتفاع الدخل الفردي فيبلدان شمال المتوسط يساهم في ارتفاع نسبة التعليم وتدني البطالة وجودة التأطير والخدمات الصحية. وكل ذلك يؤدي إلى ارتفاع مستوى التنمية البشرية إلى أكثر من 0.900 في هذه البلدان لتحتل مراكز متقدمة على الصعيد العالمي. وخلافا لذلك، يسجل مؤشر التنمية البشرية في بلدان الجنوب انخفاضا إلى ما دون مستوى 0.800 بسبب ضعف الدخل الفردي، وانتشار الفقر والبطالة والأمية، وضعف التأطير الصحي…
لقد ساهم هذا التفاوت السوسيواقتصادي الكبير بين بلدان الشمال والجنوب المتوسطيين في تنامي بعض المشاكل، كالهجرة السرية، والتهريب، وتجارة المخدرات، والعنف السياسي وانعدام الأمن والإرهاب… مما حذا بالبلدان المتوسطية إلى التنسيق فيما بينها لمواجهة هذه المشاكل، فنشأ التعاون الأورومتوسطي.
3. يهدف التعاون الأورومتوسطي إلى تخفيف التفاوتات في المجال المتوسطي لكن حصيلته لازالت محدودة
التعاون الأورومتوسطي هو سياسة التنسيق والتعاون المشترك بين الاتحاد الأوربي والبلدان المتوسطية الجنوبية والشرقية. انطلق منذ 1992، وتوج بصدور إعلان برشلونة سنة 1995 الذي حدد مجالات العمل المشترك بين الجانبين. ويسعى هذا التعاون إلى إنشاء فضاء اقتصادي للتبادل الحر في أفق سنة 2010، وتدعيم الشراكة في عدة ميادين. ومنذ سنة 2008 أصبح يسمى بـ « الاتحاد من أجل المتوسطي l’Union pour la Méditerranée ».
1.3. مجالات التعاون الأورومتوسطي وهياكله
حدد إعلان برشلونة لسنة 1995 برنامجا للعمل المشترك يتضمن ثلاثة مجالات كبرى:
* التعاون السياسي والأمني: يهدف إلى دعم السلم والاستقرار السياسي والأمني، ونشر الديمقراطية وحقوق الإنسان. ومحاربة الهجرة السرية، وتهريب المخدرات، والعنف السياسي (الإرهاب)، وتدبير الهجرة الشرعية.
* التعاون الاقتصادي والمالي: يهدف إلى إنشاء فضاء للتبادل الحر في أفق سنة 2010، وعقد اتفاقيات ثنائية للشراكة، وتقديم هبات ومساعدات مالية من خلال برنامج « ميدا MEDA »، ومنح قروض واستثمارات مالية لدول جنوب وشرق المتوسطي عبر البنك الأوربي للاستثمار، وتدبير مشترك للموارد الطبيعية وحماية البيئة.
* التعاون الثقافي والاجتماعي: يسعى إلى تشجيع الحوار بين الثقافات والحضارات المتوسطية، وتحقيق التنسيق بين هيئات المجتمع المدني، ووضع برامج ثقافية مشتركة لتطوير التراث الأورومتوسطي، ومعالجة قضايا المرأة والطفولة والشباب.
وتتشكل الهياكل والمؤسسات المسيرة للتعاون الأورومتوسطي من: اللجنة العليا الأورومتوسطية، والمنتديات واللجان الوزارية المشتركة، والجمعية البرلمانية الأورومتوسطية، والمؤسسات المالية كبرنامج « ميدا » والبنك الأوربي للاستثمار، ثم مؤسسة « أنا ليندا » للحوار الثقافي
.
2.3. حصيلة وآفاق التعاون الأورومتوسطي
لقد حقق التعاون الأورومتوسطي عدة نتائج إيجابية منها: توقيع اتفاقيات للشراكة، وتمويل عدة مشاريع اقتصادية واجتماعية من طرف برنامج « ميدا »، وزيادة حجم صادرات الجنوب نحو الشمال المتوسطي، إضافة إلى حدوث نمو محسوس في الاستثمارات الأوربية الموجهة نحو بلدان جنوب وشرق المتوسطي.
بيد أن هناك جوانب أخرى لم تحقق بعد النتائج المنتظرة، سواء في المجال الاجتماعي: كعدم تمكن برنامج « ميدا » من تنشيط فرص الشغل، والتخفيف من نسبة الأمية، وتحسين الخدمات الطبية، وتسهيل تنقل الأفراد… أو في الجانب الاقتصادي: كضعف الانفتاح التجاري، ومحدودية المبادلات بين الجانبين، وضعف تدفق الاستثمارات الأوربية، وعدم تحقق التكتل والاندماج الاقتصادي بين دول جنوب وشرق المجال المتوسطي.
ويعزى ضعف حصيلة التعاون الأورومتوسطي إلى عدة عوامل منها: – تركيز الأوربيين على الجوانب السياسية والأمنية التي تخدم مصالحهم (الهجرة السرية، المخدرات، العنف السياسي، إشاعة الديمقراطية…) – واستمرار أوربا في نهج السياسة الحمائية تجاه منتجات الجنوب – والاهتمام أكثر ببلدان أوربا الشرقية على حساب البلدان المتوسطية وبالأخص في مجال الاستثمارات…
خاتمة:
إن تطوير التعاون الأورومتوسطي وآفاقه المستقبلية رهين برفع عدة تحديات مثل: التدبير التشاركي الفعلي للقضايا الاقتصادية بمراعاة المصالح المشتركة، والتخلي عن منطق المركز والهامش، وإيجاد حلول جذرية للأزمات السياسية بالمنطقة (الصراع العربي – الإسرائيلي)، وتجاوز سلبيات الإرث التاريخي (الاستعمار)، ومعالجة انعكاسات توسيع الاتحاد الأوربي على بلدان الجنوب، ووضع مشاريع مشتركة اقتصادية واجتماعية لمعالجة بعض القضايا المستفحلة، كالهجرة السرية، والعنف السياسي، وتجارة التهريب والمخدرات بعيد عن المنطق الأمني.
==============================
71 ـ المجال المتوسطي: هو الفضاء الجغرافي المكون من البلدان المحيطة بالبحر الأبيض المتوسط والمنتمية للقارات الثلاث: إفريقيا (المغرب، الجزائر، تونس، ليبيا، ومصر) وآسيا (فلسطين، لبنان، سوريا ثم تركيا)،وأوربا (البرتغال، إسبانيا، فرنسا، إيطاليا، سلوفينيا، كرواتيا، صربيا، الجبل الأسود، البوسنة، ألبانيا، مقدونيا، اليونان، مالطة ثم قبرص).
72 ـ عدم التكافؤ بين الشمال والجنوب: هي التباينات والتفاوتات المجالية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية الموجودة مابين البلدان المتقدمة الواقعة في أمريكا الشمالية وأوربا واليابان وأستراليا وبعض الدول الصناعية الجديدة من جهة، والبلدان النامية في أمريكا اللاتينية وإفريقيا وآسيا من جهة أخرى.
73 التعاون الأورومتوسطي: هو سياسة التعاون المشترك ما بين الاتحاد الأوربي والبلدان المتوسطية. بدأ منذ 1992، وتوج بإصدار إعلان برشلونة سنة 1995 الذي حدد مجالات التعاون بين الجانبين في ثلاثة محاور كبرى: سياسة- أمنية، واقتصادية مالية، واجتماعية ثقافية. ويسعى هذا التعاون إلى جعل المال المتوسطي منطقة للتبادل الحر في أفق سنة 2010 عبر توقيع اتفاقيات للشراكة بين الجانبين. وتوج هذا التعاون سنة 2008 بإنشاء ما يسمى بـ « الاتحاد من أجل المتوسطي ».