مجزوءة الوضع البشري
III-مفهوم الغير
إن المقاربة الموضوعية تحتم علينا عدم حصر هوية الشخص في التفكير، اعتباره ذاتا مفكرة واعية، إن الشخص مفهوم إشكالي متعدد الأبعاد (شخصي، اجتماعي، تاريخي…) إن الشخص كائن قائم الذات له مقومات ومكونات خاصة، لكن كإنسان عاقل ليس فردا معزولا عن الآخرين، بل لا يمكن إن الشخص كائن قائم الذات له مقومات ومكونات خاصة، لكن كإنسان عاقل ليس فردا معزولا عن الآخرين، بل لا يمكن اعتباره موجودا إلا لكي يعيش مع الآخرين، وذلك لتحقيق غايات مشتركة، فالمشاعر والمواقف، مثل الحب والكراهية، الصداقة والعداوة والتسامح… لا تأخذ معناها إلا من خلال علاقتنا بالغير، بل يمكن القول أن أفكارنا وممارستنا ولغتنا لا تصبح لها دلالة ومغزى ولا تؤدي وظائفها إلا بوجود هؤلاء، الذين يشكلون عالما إنسانيا، إنهم الناس الأغيار، إنهم الغير (AUTRUI في اللغة الفرنسية، ويمكن أن نعبر عن الغير الفردي بلفظ الآخر AUTRE الذي هو مفهوم عام، يعتبر العالم الإنساني مستوى من مستوياته (العالم الآخر، المجتمع الآخر، الدين الآخر…).
إذن لا يتحقق الوجود الإنساني الفردي (الأنا) أو الجماعي (الهم) إلا بحضور مادي أو معنوي لذوات إنسانية أخرى (الغير) تنشأ بينهم علاقات مركبة ومتداخلة:
-فلماذا يشكل وجود الغير بالنسبة لوجود الأنا؟ هل هو أنا آخر؟
-هل بالإمكان معرفته؟ وهل العلاقة مع الغير علاقة تكامل أم تنافر؟
المحور الأول: وجود الغير
إذا كان الشخص يشير إلى الإنسان ككائن عاقل وواع ومستقل… فهل فكرة استقلالية الشخص تعني أننا أمام فرد منعزل عن الغير، مكتف بذاته؟ أم أن وجود الشخص ووعيه بذاته متوقف على وجود الغير؟ أي هل يعتبر الغير تهديدا للأنا أم شرطا لوجوده؟
أطروحة سارتر: الغير هو أنا الآخر
يحدد سارتر الغير كأنا آخر، مماثل للأنا، لكنه مستقل في وجوده ومختلف عني (الأنا) الغير هو الأنا الذي ليس أنا » كما يعتبر وجود الغير نفيا لوجود الأنا عندما يحوله إلى موضوع: الشيء الذي يجعل الأنا يحاول التعالي عليه وذلك من خلال جعله موضوعا له بدوره.
إن وجود الغير حسب سارتر كأنا آخر، مماثل للأنا لكنه مختلف عنه في آن واحد، إنه نظام من التصورات التي يشيدها الأنا عنه، وهذا الآخر يقوم هو نفسه بالمثل إزاء الأنا، أي أن سارتر يرى بأن العلاقة بين الأنا والغير، علاقة قائمة على السلب (فصل، عدم، نفي…) كل واحد يجعل من الآخر موضوعا، يعمل على نفيه، يشيئه بإفراغه من إنسانيته، بعد أن يسلبه إراداته وحريته، وهي الشرط الأساسي لوجوده.
لكن إذا كانت نظرة الغير ومثوله أمامنا تضع الأنا في وضعية عبودية لكونه يحد من حريته، فهو في نفس الوقت عنصر أساسي لإثبات الأنا لوجوده، يقول سارتر « إن الغير هو الوسيط الذي لا غنى عنه بيني أنا وبين نفسي، فأنا خجول من نفسي من حيث أتبدى للغير ».
« وهكذا نجد أن الخجل هو خجل من الذات أمام الغير، فهاتان البنيتان غير منفصلتين، ولكن في الوقت نفسه أنا في حاجة إلى الغير لأدرك إدراكا كاملا كل بنيات وجودي ».
نستنتج مع سارتر أن الغير ليس شيئا، وإنما هو أنا أخرى مثلي، لكن كل منهما يعمل ليتعالى على الآخر. إن وجود الغير إذن ضروري لإثبات وجود الأنا وتأكيد حريته « لكي أتوصل إلى حقيقة كيفما كانت حول ذاتي، لا بد لي أن أمر عبر الآخر (الغير) إن الآخر لا غنى عنه لوجودي، كما لا غنى لي عنه في معرفتي لنفسي »، (ساتر الوجودية فلسفة إنسانية).
أطروحة جيل دولوز وغاتاري « الغير كعالم ممكن »
يرى دولوز وغاتاري أن الغير هو عالم إنساني متعدد الذوات، أي بنية من العلاقات والتفاعلات بين الأشخاص والأفراد كأغيار. إن الغير مفهوم ذو ثلاثة مكونات متلازمة:
1-عالم ممكن
2-وجه قائم الوجود
3-كلام أو لغة واقعية
إن تصور دولوز-غاتاري لمفهوم الغير، يتجاوز ثنائية الأنا/الآخر، التي عرفها الفكر الفلسفي الحديث والمعاصر (هيجل، هوسرل، سارتر…) تصور يجرد الغير من معناه الفردي المشخص، ويضمنه معنى بنيويا، أي أن الغير بنية أو نظام من العلاقات والتفاعلات بين الأشخاص والأفراد كأغيار، ويتجلى هذا النظام في المجال الإدراكي الحسي، ويشكل عالم الممكن الإدراكي، يكون هذا الممكن الإدراكي تخيليا حيث يغيب الآخر/الغير من مجال إدراكي، ويكون فعلي في حضور الآخر/الغير، فالوجه المفزع أو المخيف يعبر عن ممكن حاضر فيه فعلا كممكن، تمنحه اللغة/الكلام، صورة متحققة.
خلاصة واستنتاج
إن المعالجة الفلسفية لمفهوم الغير، سواء على المستوى الأنطلوجي أو المعرفي أو الأخلاقي تقوم على أساس علاقته بالأنا، أي أن الأنا (الوعي)، لا يوجد بمعزل عن العالم والآخرين، أو منغلقا على ذاته إن الفلسفة الحديثة، بدءا من هيجل، تجاوزت فلسفة الذات أو « الأنا أفكر » الديكارتية، والتي تضع الأنا في مقابل العالم والآخرين.
إن الغير/الآخر، ضرورة أنطولوجية ومعرفية لا غنى عنها بالنسبة للأنا، سواء في فلسفة هيجل، أو هورسل أو سارتر… حيث يرى هيجل أن الأنا ليست كيانا نفسيا أو ميتافيزيقيا مطابقا لذاته (نقد فلسفة ديكارت والتصورات الماهوية عموما)، بل هو ستشكل وينمو في علاقته مع الغير، إن علاقة الأنا بالآخر علاقة صراع وتجاوز، حيث أن كل واحد منهما (الأنا والآخر) يحاول أن ينتزع الاعتراف به من طرف الآخر.
سارتر، عمل على تعميق التصور الهيجلي، حيث يرى أن الغير أنا آخر، وهي علاقة قائمة على السلب، إلى حد اعتبار الآخر جحيما، في الصورة الأولى، يقول سارتر في كتابه « الوجود والعدم »:
« الخطيئة الأولى عندي ليست شيئا آخر إلا أنني وجدت في عالم يوجد فيه الأغيار، بل إن هؤلاء الأغيار أو الآخرين يمثلون الجحيم نفسه، غير أنه في الصورة الثانية من كتابه « الوجودية فلسفة إنسانية » بدأ يتحدث عن التزام ومسؤولية الإنسان الوجودي يقول:
« إنني مضطر في الوقت الذي فيه حريتي أن يريد حرية الآخرين، إذ أنني لا أستطيع أن أجعل من حريتي هدفا إلا إذا نظرت إلى حرية الآخرين أيضا باعتبارها هدفا لي… ».
إن هذا التقابل في ثنائية الأنا/الآخر يتجاوزه دولوز-غاتاري من خلال تصور بنيوي لمفهوم الغير.
المحور الثاني: معرفة الغير
إن « معرفة بوجه عام هي الفعل الذي يدرك من خلاله الفكر أو العقل موضوعا ما، ويقصد بالموضوع، كل ما يتجه إليه النشاط الفكري للذات المعرفة (فكرة-شيء-أنا آخر…)، حيث يتقابل موضوع المعرفة مع الذات، فالذات تعني الأنا الواعي، المفكر، المتميز بالإرادة والقصدية والحرية… بينما يعني الموضوع شيئا ماديا فاقدا لكل هذه الصفات والخصائص، فهل الغير، باعتباره أنا آخر قابل للمعرفة بهذا المعنى؟ هل أعرفه كما أعرف الأشياء علما بأن نمط وجوده يتجاوز نمط وجود الأشياء، لأنه أنا آخر يعي العالم والآخرين ويدركهما؟
أطروحة مالبرانش « صعوبات معرفة الغير »
يرى أن معرفة الآخرين من الناس لا يمكن أن ترقىمن حيث درجة يقينها إلى مستوى معرفة حقيقة الذات، لأن « الأنا أفكر » (بالمعنى الديكارتي) هي وحدها الحقيقة الواضحة والمتميزة، إنها موضوع معرفة حدسية مباشرة بالذات، أما الآخر المختلف (عن الذات) فمعرفته تقريبية قائمة على التخمين والظن، إذ لا يمكن بناء معرفة عن الغير انطلاقا من الوعي الذاتي للأنا، ومن ثمة فإن كل معرفة بالآخر مجرد معرفة افتراضية.
لإبراز حدود معرفة الذات بالغير، يميز مالبرانش بين الحقائق العلمية والأخلاقية، قدرة الآخر على التمييز بين الثراء والعدل، الخير والمتعة، الشر والألم… إن الذات بإمكانها أن تعرف الغير، اعتمادا على عنصر الشبه بين الذات بالآخر، أو محاولة الحكم عليه سيكون مآلها الخطأ…
مالبرانش جعل من الأنا (الذات) أساس الحقيقة مرجعها وموضوعها في آن واحد، أي جعل الوعي في عزلة عن الآخرين، وهذا توجه عقلاني ديكارتي، وهو التوجه الفلسفي السائد في القرن 17 في معالجة إشكالية الغير.
أطروحة ميرلويونتي: « الغير حاضر دوما »
يرى ميرلوبونتي إمكانية التواصل مع الغير من خلال اللغة والحوار، كتجربة لعالم مشترك بين الأنا والغير.
إن الفيلسوف بنى أطروحته عبر محطات أساسية من خلال بنية حجاجية انطلقت من نفيه لنزعة « الأنا وحدية » التي تحصر معرفة الحقيقة في الأنا، وتجعل علاقة الأنا بالغير علاقة تشييئية، حيث يتحول الآخر إلى موضوع.
إن توقف الحوار، لا يعني غياب وجود الغير، لأن « رفض التواصل هو نمط من أنماط التواصل، « فالغير يسكن عالمي وفكري كما أسكن عالمه وفكره، حتى في حالة التأملات الكلية التي تفصل الفيلسوف عن العالم، هي في الواقع فعل، وكلام، وبالتالي حوار « فالذاتية المتعالية… هي بين ذاتية ».
من منظور ظاهراتي، يرى ميرلوبونتي أن نمط وجودنا في العالم، يستدعي الغير والعالم منذ اللحظة الأولى لوجودنا، وما نبدأ به هو وجودنا الخاص « جسدنا الخاص » وهو امتداد لجسد العالم ولجسد الغير، هذا « الجسد الخاص » يوجد بطريقة خاصة تجعله لا يكون داخل العالم كما تكون الأشياء، بل يسكنه ويولد المعنى، فما يجعلني في علاقة بغيري هو جسدي الخاص الذي يتلقى في المجال الإدراكي بالأجساد الخاصة الأخرى عبر سلوكاتها المعبرة والدالة وأفعالها القاصدة، فيولد المعنى والتعبير الذي يفتح لي باب محاورة الغير وبناء عالم مشترك واقتسام الحضور مع الغير إن العلاقة بالغير هي علاقة مآلها التواصل الذي « يمكنه أن يتوقف لمدة، ولكنه لا يمكنه أن ينتفي أو ينقطع » لأنه شرط الإنسانية المشتركة.
فمعرفة الغير هي معرفة لذاتي من حيث هي إنسانية مشروطة بحضور الغير، لهذا السبب يكتب موريس ميرلويونتي « لا تقلق الإنسان نظرة الكلب ولكن تقلقه نظرة إنسان يرفض الحوار ».
إذن إن التواصل مع الغير ممكن، وأن معرفته ممكنة، بناء على هذا التواصل الذي يمكنه أن يعلق أو يؤجل ولا يمكنه أن يلغي أو يعدم، فهو شرط إنسانية كل من الأنا والغير، وشرط بناء عالم مشترك يجمع بينهما في تشابههما واختلافهما.
إن هذا الموقف الفلسفي لميرلويونتي، يركز على أهمية التعبير والكلام، وخصوصا على إمكانية محاورة الغير والتواصل معه، ويعطي قيمة إيجابية لفعل التواصل، حيث لا يسجن الغير كوعي منغلق عن ذاته.
ينظر إلى الذوات الأخرى، كموضوعات، كما هو الحال عند ديكارت وعند جون بول سارتر، بل ينتهي إلى ضرورة الانفتاح على الآخر.
لكن إذا كان التواصل مع الغير، ينبع من اللغة، فما هي حدود التواصل مع الغير؟ وبالتالي، ما هي حدود استعمال اللغة أثناء عملية التواصل؟
استنتاجات
اختلاف المواقف والأطروحات الفلسفية بخصوص معرفة العير وذلك بحسب اختلاف توجهاتها ومنطلقاتها الفلسفية، فهناك تصورات فلسفية تجعل من الأنا أداة المعرفة وموضوعها، باعتبارها الأنا مركز الحكم والاستدلال… (نزعة الأنا وحدية) حيث تجعل الآخر المختلف عن الذات، يطرح صعوبات على مستوى معرفته.
من هذه المواقف الفلسفية ما ينظر إلى العلاقة بين الأنا والغير، باعتبارها تتأسس على الصراع ويعتبر التهديد أساس ومنطلق العلاقة التي تشيء الغير وتجعله يصارع من أجل رفع هذا التشييء.
غير أن هناك مساهمات فلسفية، تذيب الفوارق بين الأنا والآخر، وتنظر إلى معرفة الغير بمعناها الواسع، وتتجلى في إمكانية التواصل والحوار مع الآخر المشابه، المغاير أو المختلف على السواء، حيث يجمع بين الأنا والغير عالم مشترك.
المحور الثالث: العلاقة مع الغير
لا يمكن حصر علاقة الأنا مع الغير في مستويات أنطولوجية ومعرفية، بل إن إشكالية الغير تجد بعض حلولها في الجانب الأخلاقي، باعتبار الغير هو الشبيه والمختلف، القريب والبعيد، الصديق والغربي… هذه الأوجه المختلفة لعلاقة الأنا بالغير تؤكد خصوبة المعالجة الفلسفية للعلاقة مع الغير، وهو ما يعكسه القاموس الغني للعلاقات الإنسانية الإيجابية والسلبية، كالحب والكراهية، التعصب والتسامح، الصدافة والغرابة…
فهل العلاقة مع الغير علاقة تكامل أم علاقة تنافر؟
أوغست كونت (ق19)
يرى كونت أن الغيرية autruisme باعتبارها نكرانا للذات وتضحية من أجل الغير هي الكفيلة بتثبيت مشاعر التعاطف والمحبة بين الناس، فتجد الإنسانية غاياتها الكبرى في نشر قيم العقل والعلم والتضامن والاستقرار في العالم، من مظاهر العلاقة الإنسانية الإيجابية الصداقة.
أرسطو: الصداقة أساس العلاقة مع الغير
إن الصداقة نموذج إيجابي للعلاقة مع الغير « القريب »، والصداقة حسب أرسطو، قيمة أخلاقية ومدنية ضرورية لقيام المجتمع الإنساني، والصداقة الحقة هي صداقة الفضيلة، لأنها تقوم على محبة الخير والجمال ذاته، في مقابل صداقة المتعة وصداقة المنفعة،، وإذا كانت صداقة الفضيلة غاية فهي نادرة ودائمة، فإن صداقة المتعة والمنفعة وسيلة، لذا فهي مؤقتة، إن الصداقة تبقى علاقة ضرورية ومطلبا للحياة المشتركة، ولو أمكن قيام الصداقة الحقة، صداقة الفضيلة بين الناس جميعا لما احتاجوا إلى العدالة والقوانين.
إن هذا التصور الأرسطي للصداقة، تصور مثالي (غير واقعي)، فقد يكون هذا النموذج من الصداقة (صداقة الفضيلة) نادرا ومستحيلا، لأنه يتطلب مجتمعا صغيرا، لأن المجتمعات الكبيرة تسودها الغرابة.
الكسندر كوجيف: العلاقة مع الغير هي دائما علاقة صراع
من منظور هيجلي يرى ألكسندر كوجيف، أن العلاقة مع الغير هي دائما علاقة صراع، لأنها تقوم على مبدأ الهيمنة، فكل منهما يسعى إلى موت الآخر، أو انتزاع الاعتراف مع الآخر، فيصبح أحدهما سيدا والآخر عبدا، إن الوجود البشري، لا يتحقق كواقع اجتماعي إلا عبر الصراع بين سيد مسيطر وعبد خاضع، لأن « التاريخ ينبغي أن يكون تاريخ تفاعل السيادة والعبودية ».
جوليا كريستيفا
تتجاوز هذا التصور القائم على الصراع، لأن الغريب في نظرها، ليس هو ذلك الأجنبي القادم من الخارج الجماعة، الذي يهدد وحدتها وانسجامها، =لك أن كل جماعة تحمل في ذاتها بحكم اختلافاتها وتناقضاتها الداخلية غريبها الخاص، وهذا ما تعبر عنه كريستيفا بقولها « إن الغريب يسكننا على نحو غريب ».
إذا كان الأمر كذلك، فإن الموقف الطبيعي الذي ينبغي أن يتخذ من الغير البعيد (الأجنبي، المهاجر، الجنس الآخر… ) ليس هو موقف النبد والإقصاء والعداء… بل هو موقف الحوار والتسامح والاحترام… هذا الموقف الذي تدعو إليه كريستيفا، تؤكده الدراسات الانتروبولوجية المعاصرة التي أظهرت تنوع الثقافات الإنسانية وتكاملها.