المجزوءة الثانية: المعرفة
النظرية والتجربة
تقديم: ما المعرفة؟
المعرفة فاعلية إنسانية. وهي لا توجد معطاة جاهزة، بل يتم بناؤها، وتأسيسها… من آليات بناء المعرفة: الاستدلال والبرهان والتجربة… فالمعرفة بهذا المعنى، بناء منهجي يتم وفق، جدلية، حور، توتر بين الذات والموضوع. (وإن كل إشكالات المعرفة تنبع من هذا الحوار والتفاعل المستمرين بين الذات والموضوع). فالمعرفة هي اغتناء الذات بما بنته من موضوعات سواء كانت طبيعية أو إنسانية…
ابتداء من العصر الحديث- (عصر انتصار العقل والعلم)- استطاع الإنسان بناء معرفة أساسها نظرة جديد للعالم، وان يعلن عن مشروع سيادته على الطبيعة بفضل إيمانه القوي بقدراته العقلية المنهجية. فعمل على تسخير ملكاته العقلية، وبما له من تجهيزات وأدوات للملاحظة والقياس إلى فهم الطبيعة وتحليل ظواهرها لأجل التحكم فيها. وبالفعل استطاع الإنسان أن يحقق نجاحا كبيرا في معرفته بالطبيعة، وذلك بفضل الصياغة الرياضية والتجريب العلمي ومن بناء قوانين ونظريات علمية. ويمكن اعتبار النظرية والتجربة، وجهان لجدلية الذات والموضوع، التي وسمت المعرفة الإنسانية. وتم تتويج مسار انتصار العقل والعلم، تأسيس الإنسان لمعرفة حول ذاته، وذلك بميلاد العلوم الإنسانية، وما رافقه من مشاكل إبستيمولوجية مختلفة، سواء على مستوى الموضوع والمنهج، والتفسير، والفهم…
1- مفهوم النظرية والتجربة:
* التجربة التجريب
* العقلانية العلمية
*معايير علمية النظريات العلمية
تقديم:
– ما النظرية؟ وما التجربة؟
يحمل عنوان « النظرية والتجربة » تقابلا بين مفهومين مختلفين. فالنظرية تحيل إلى العقلي المجرد، والتجربة إلى الواقعي، الملموس…
تعني النظرية في التحديد الاصطلاحي التأمل العقلي:
« نسق من المبادئ والقوانين ينظم معرفتنا بمجالات خاصة، ويتضمن هذا النسق بناء منطقيا له مكوناته ويخضع لنظام فرضي استنباطي، يسمح للعالم بالانتقال من عنصر إلى آخر وفق تراتب صارم« .
أما لفظ التجربة- بالمعنى العام- فيحيل على مجالات عديدة ويحمل دلالات متنوعة:
التجربة تدل على مجموعة المعارف والخبرات التي يكونها في علاقته المباشرة بالواقع.
أما في مجال المعرفة العلمية، فإن التجربة، تعني القيام بإعادة إحداث ظاهرة ما، تمت ملاحظتها في شروط محددة، لدراستها كوسيلة لمعرفة القوانين المتحكمة في الظواهر.
إن هذا التقابل بين النظرية كبناء عقلي مفاهيمي منهجي، … والتجربة كمجال لحضور الملموس والواقعي، يقودنا إلى طرح التساؤلات التالية: هل القول بأهمية التجربة تهميش للعقل؟ ألا يعتبر العقل أساسيا في تحويل التجربة إلى نظرية علمية موضوعية؟ ما معايير صلاحية النظرية العلمية؟.
المحور الأول: التجربة والتجريب؟
تشكل التجربة والتجريب، لحظة أساسية في مجال البحث العلمي، التجريب هو المساءلة المنهجية للطبيعة، ويعني مجموع الإجراءات التي يبدعها العالم، بحيث يخضع موضوعه (الظاهرة أو الواقعة المدروسة) للمساءلة والاختبار. لذا يعمل العالم على إحداث ظاهرة معينة ضمن ظروف وشروط يصطنعها قصد إيجاد جواب عن الأسئلة التي يطرحها. ويتوخى التجريب العلمي الدقة والموضوعية في التعامل مع الظواهر المدروسة.
يميز العلماء بين التجربة الحسية أو الخبرة الواقعة وبين التجربة أو التجريب العلمي. إن التجربة أو الخبرة العادية لم تلعب أي دور في نشأة العلم، بل شكلت حسب بشلار، عائقا إبستيمولجيا، لأنها نتجت عن بادئ الرأي وتكون دوما مصدر للأخطاء.
يقدم كلود برنار في كتابه « المدخل لدراسة الطب التجريبي » عرضا مفصلا للأسس النظرية والمنهجية، للمنهج التجريبي في صورته الكلاسيكية ويعتبر التجريب أو فن الحصول على تجارب دقيقة ومحددة، هو الأساس العملي، ويشكل الجزء التنفيذي للمنهج التجريبي بخطواته الأربع الأساسية وهي الملاحظة، الفرضية، التجربة، القانون. وهذا التمييز لا يعني استقلال هذه الخطوات بعضها عن البعض أو إمكانية ترتيبها دائما بهذا الشكل، لأن العالم وهو يجرب فهو يلاحظ ويتساءل… في ذات الوقت.
وحسب كلود برنار، يجمع العالم التجريبي بين شروط الملاحظة العلمية ومبادئ التجربة عندما يخضع الفروض لمبدأ التحقق، فالعلم التجريبي بيني قوانينه تبعا لخطوات وشروط منهجية ونظرية ضرورية.
ويعتبر التجريب نوعا آخر من الملاحظة. فإذا كانت الملاحظة تأملا وتحيليلا ذهنيا للحوادث كما رتبتها الطبيعة، فإن التجريب ملاحظة أخرى يتصرف فيها العالم بحوادث الطبيعة طبقا لمخطط ذهني يرمي إلى التحقق منه، والفرق بينهما أن التجريب ملاحظة مصطنعة، في حين أن الملاحظة تقتصر على تتبع الحادثة كما تجري في الطبيعة، وفي هذا المعنى يقول كوفييه.
« إن الملاحظ يصغي إلى الطبيعة، أما المجرب فيسألها ويرغمها على الجواب » من مزايا التجريب تكرار الحوادث، تغيير شروط التجربة، عزل الحوادث…
غير أن العالم لا يحتاج دائما إلى إجراء تجاربه في المختبر، فمعرفته المسبقة بالوقائع، وإدراكه للمبادئ النظرية التي ينطلق منها يسمحان له بإجراء تجارب نظرية، أي إجراء تجارب في ذهنه وليس دائما في الواقع. من هنا يلتجأ العالم إلى « التجربة الذهني الخيالية » عندما يستحيل عليه القيام بتجارب تفلت من الملاحظة العلمية المباشرة.
وحسب روني طوم، لا يشكل التجريب العلمي في معناه التقليدي مقوما وحيدا في تفسير الظواهر، بل لابد من اعتبار عنصر الخيال وإدماجه في عملية التجريب. إن الخيال هو تجربة ذهنية تمنح للواقع غنى، وباختصار فإن العلم لا يمكن أن يكون علما، إلا إذا انفتح على الافتراضي والخيالي (روني طوم).
إذا كانت التجربة العلمية هي الحكم الذي يحسم صحة او خطأ الفرضيات، فإن تأكيد التجربة (للفرضية، لا يعني حقيقة يقينية في العلم. بمعنى أن الحقيقة العلمية في العلوم، نسبية واحتمالية. ففي مجال الفيزياء المعاصرة، تطرح الظواهر الميكروسكوبية (الذرة مثلا) صعوبة الملاحظة المباشرة، صعوبة التجريب… إذ من الصعوبة مثلا ملاحظة حركة الإلكترونات والبروتونات في الذرة، بحيث لا يمكن متابعة حركتها او التجريب عليها. فكثير من التجارب تعتمد الآن الصورة بدل الواقع والأثر بدل الشيء،والحسابات الرياضية بدل المعطيات المخبرية.
المحور الثاني: العقلانية العلمية
يطرح مفهوم العقلانية العلمية إشكالا فلسفيا وعلميا حول علاقة العقل بالواقع او التجربة. وهي علاقة مركبة ومتداخلة. فما هي خصائص العقلانية العلمية ؟ وما هي حدودها؟
أطروحة هانز رايشنباخ
يميز رايشنباخ بين الأنساق الفلسفية العقلانية التي تعالج العلم الفزيائي اعتمادا على العقل وحده، كمصدر لمعرفة هذا العالم، وبين المعرفة العلمية التي تقتضي استخدام العقل مطبقا على مادة الملاحظة.
وإذا كانت العقلانية ارتبطت تاريخيا بالعصر الحديث، فإنها تشتمل بمعناها الواسع المذاهب ذات النمط الأفلاطوني، لأنهما معا، تعتمدان العقل كمصدر مستقل لمعرفة العلم الفيزيائي دونما حاجة للرجوع إلى التجربة، الأمر الذي يجعل هذه الفلسفات خاصة تلك التي تعتمد الرياضيات تحمل نزعة صوفية (دينية)، (الفيتاغورية مثلا أو الأفلاطونية هذه الفلسفات سخرت الرياضيات لتفسير العالم). إن الفلسفة العقلانية- حسب رايشتنباخ- تلبي حاجات ذهنية، لا تنتمي إلى مجال المنطق. أفلاطون مثلا وحد بين المعرفة الرياضية. واستبعد دور الملاحظة من مجال المعرفة. لاعتقاده بأن معرفة الطبيعة لا تحتاج إلى ملاحظة وإنما يمكن بلوغها بالعقل وحده كمصدر للحقيقة اليقين.
يستند هانز رايشنباخ في نقده للأنساق العقلانية إلى مرجعية وضعية. فهو أحد أقطاب « دائرة فيينا » إلى جانب كرناب، وموريس شليك… مؤسسو الوضعية الجديدة او التجريبية العلمية أو المنطقية ». هي تجريبية لأنها ككل النزعات التجريبية، ترى أن التجربة هي المصدر الوحيد لكل ما يمكن أن نحصل عليه من معارف عن الواقع، فهي لا تؤمن بوجود أفكار قبلية، بالبداهة العقلية، بالتالي فإن القضايا التي تتحدث عن أشياء لا يمكن التحقق منها بالتجربة هي قضايا فارغة من المعنى (القضايا الميتافيزيقية) عموما.
هي منطقية، ترى أنه بالإمكان الحصول على معارف يقينية في مجال العلم، شريطة التقيد الصارم بالمنطق الذي هو علم استدلالي صوري بحث، مثله مثل الرياضيات، ولذلك يميز المناطقة الوضعيون بين القضايا ذات المعنى القضايا الفارغة من المعنى. الأولي هي القضايا التركيبية (قضايا العلوم الطبيعية) والقضايا التحليلية ص(قضايا الرياضيات التي هي عبارة عن تحصيل حاصل). أما القضايا الأخرى، لفارغة من المعنى، فهي كل القضايا التي لا تنتمي إلى عالم الرياضيات والعلوم الطبيعية. (القضايا الميتافيزيقية).
هناك إذن في نظرية الفلسفة الوضعية، نوعان من المعرفة المشروعة: معارف ترتبط بظواهر الواقع ومعطيات التجربة ومعارف ترتبط بصور الفكر ومنشآت اللغة. أي إخضاع لغة العلم، لتحليل منطقي صارم، حتى تعتبر عما تقدمه لنا « محاضر »س التجربة، من غير زيادة أو نقصان. تلك هي مهمة « فلسفة العلم أو « منطق العلم ».
غير أن دعوة الفلسفة الوضعية، إلى التقيد الصارم بالتجربة، جعل منها نزعة إختبارية. ثم إن التحليل المنطقي للمفاهيم والفروض والنظريات التي يستعملها العلم، كما تفهمه وتمارسه الوضعية المنطقية، تحليل صوري بحث يستهدف استخلاص « الهيكل المنطقي » للغة العلم، والمنطق يقدم الأدلة والبراهين لكنه لا يكتشف شيئا في حين أن العم في حاجة إلى الخيال المبدع بقدر حاجته إلى الصرامة المنطقية. إن إهمتل ما لا يمكن التحقق منه بالتجربة بدعوى مطاردة الأفكال الميتافيزيقية يمكن أن يؤدي إلى توقف العلم بتوقف الاكتشاف الذي يستلزم إبداعات الخيال والعقل.ينتقد روبير بلانشي، الفلسفة الوضعية كنزعة اختبارية، تعتبر العقل بمثابة مرآة في مجاراته الواقائع التجريبية، يراجع مبادئه وقواعده. وينزع عنها صفة الثبات والإطلاق. وهذا يؤكد أن العقلانية العلمية، هي عقلاني تجريبية منفتحة.
من هذا المنظور العقلاني الجديد (الفلسفة المفتوح) يعالج غاستون باشلار ، العقلانية العلمية حيث ينتقد الفلسفة الوضعية كنزعة تجريبية، والفلسفات العقلانية في تنوعها واختلاف توجهاتها الفلسفية والعلمية على السواء. يقول باشلار بموقف جدلي للعقل، أي العقل يوجد في علاقة جدلية مع المعارف التي ينتجها- إن العقل ينتج المعارف، لكنه يخضع لتأثير هذه المعارف على بنيته. وهذا ما يمكن أن نستفيد من الثورة التي أحدثتها النظريات العلمية المعاصرة (في مجال الفيزياء والرياضيات) في المفاهيم التي كانت تعتبر مبادئ أولية ثابتة.
إن العقل ليس بنية ثابتة، بل بنية لها تاريخ. وتاريخها في تطور معارفها، إن العقل لا ينتج العلم فحسب، ولكنه يتعلم من العلم أيضا « فالعلم بصفة عامة يعلم العقل، وعلى العقل أن يخضع للعلم، للعلم أكثر تطورا، للعلم الذي يتطور » (يشلار: فلسفة النفي). معنى هذا الخضوع أن على العقل أن يكيف بنيته تبعا لجدل المعارف العلمية، وإلا فإنه لا يستطيع أن يستفيد من الثورات العلمية التي تحدث.
إن العقلانية العلمية في الفيزياء المعاصرة تتأسس على الحوار المستمر بين العقل والتجربة، لأن الفيزياء المعاصرة تحتاج ليقين مزدوج:
الأول: أن يكون الواقع في قبضة ما هو ليحمل اسم الواقع العلمي.
الثاني: أن تكون الحجج العقلية المرتبطة بالتجربة من صميم لحظات هذه التجربة. « وباختصار لا توجد عقلانية فارغة، كما لا توجد اختبارية عمياء ».
المحور الثالث: معايير علمية النظريات العلمية
لقد أفضى النقاش حول مقومات النظرية العلمية، ودور كل من التجربة والعقل في بنائها، علاقة العقل العلمي بالواقع العلمي، إلى مواقف فلسفية وعلمية متباينة، يؤكد بعضها أهمية التجربة والملاحظة ودورهما، كشرطين أساسين للنظرية العلمية، كالنزعات الاختيارية والتجريبية التي ترى أن المعرفة العلمية ينبغي أن تطبق على مادة الملاحظة والتجربة او النزعات العقلانية التي تجعل من العقل مصدر الحقيقة العلمية ومعيارها. فما هي إذن معايير علمية النظريات العلمية؟ من أين تستمد صلاحياتها؟
أطروحة كارل بوبر
يميز بوبر بين أربعة مراحل للتحقق من صلاحيته النظرية العلمية وينتهي إلى أن علمية النظرية يتمثل في قابليتها للدحض أو التزييف اعتمادا على جملة من الاختبارات الدقيقة.
أولى مراحل التحقق من صحة النظرية العلمية. إجراء مقارنة منطقية بين النتائج التي نتحقق بواسطتها من التماسك الداخلي للنظرية.
ثانيا: البحث في الصورة المنطقية للنظرية، والذي يمكننا من معرفة طبيعة النظرية، هل هي نظرية اختبارية (أو علمية)، أم نظرية توتولوجية تحصيلية.
ثالثا: المقارنة بين النظرية موضوع البحث ونظريات أخرى، للتأكد من صمودها أمام الاختبارات المختلفة.
رابعا: التأكد من قابلية النظرية للتزييف أو التكذيب، من خلال اختبارات تطبيقية أو تجريبية على نتائجها.
يمكننا أن نستخلص- انطلاقا من مراحل التحقق من صحة النظرية العلمية كما يقترحها بوبر- ثلاثة معايير لإثبات صلاحية النظريات العلمية:
1- معيار الأنساق أو التماسك المنطقي، ويقصد به اختبار الانسجام الداخلي للنظرية من خلال المقارنة الصورية بين مكوناتها: فرضياتها، مفاهيمها، نتائجها… ويشترط في النسق خلوه من التناقضات الداخلية.
2- معيار التحقق التجريبي: ويعني التأكد من النظرية العلمية ومكوناتها، هل هي قابلة للاختبار التجريبي (قضايا ذات معنى) لتدخل بالتالي في دائرة العلم أم هي قضايا فارغة من المعنى.
3- معيار قابلية النظرية العلمية (الاختبارية) للتزييف أو للتكذيب.
لإثبات صلاحية النظرية العلمية. كارل بوبر، معيار قابلية النظرية العلمية للتزييف أو التكذيب كبديل عن مبدأ « التحقق التجريبي » بمعنى أن النسق لا ينبغي أن يكون قابلا للاختبار بكيفية إيجابية وبشكل نهائي، بل يشترك أن يكون قابلا للاختبار بكيفية سلبية أي أن تكون قضاياه قابلة للدحض بواسطة التجربة.
يقول كارل بوبر « لا يعتبر أي نسق نظري اختباريا إلا إذا كان قابلا للخضوع لاختبارات أو روائز تجريبية… غير أن قابلية (أو التكذيب) وليس قابلية تحقق النسق هي التي ينبغي ان نتخذها معيار الفصل بين ما هو علمي وما ليس عليما »، ويضيف أن اختبار نظرية ما يشبه اختبار جزء من آلة ميكانيكية أي محاولة تبين العيب فيها. إن النظرية التي لا نعرف مقدما انه لا يمكن تبيان العيب فيها أو تفنيدها هي نظرية غير قابلة للاختبار وبالتالي فهي تخرج عن دائرة العلم.
عندما ينتقد بوبر معيار « التحقق التجريبي » وهي من مبادئ « الوضعية المنطقية » فإنما يعبر عن طبيعة الحقيقة العلمية، لا كحقيقة نهائية مطلقة. بل كحقيقية مؤقتة واحتمالية. يقول بوبر في كتابه منطق الاكتشاف العلمي « ليس العلم نسقا من قضايا يقينية أو مبنية بناء صحيحا، كما أنه ليس نسقا يتقدم بانتظام نحو نقطة نهاية. إن علمنا ليس معرفة فلا يمكنه أن يدعى امتلاك الحقيقة… »
إذ، لم تعد التجربة كما تصورها النزعة الاختبارية التجريبية (الوضعية) هي منبع النظرية ومحك الحكم على قيمتها كما كان الحال في الفيزياء الكلاسيكية (القرن 17 و18). كما لم يعد العقل كما تصورته النزعة العقلانية المغلقة، مكتفيا بذاته ومعزولا عن الواقع. إن العقلانية العلمية هي عقلانية فلسفية مطبقة. إذ لا يمكننا فهم عمل العلم وإدراك قيمته الفلسفية إلا في ضوء العلاقة الجدلية بين العقل والواقع. ففي عالم تتصارع فيه النظريات، يحاول العالم أن يبني نظريته بين نظريات علمية أخرى، لذلك تلتجئ النظرية إلى الفروض الإضافية والاختبارات المتكررة لتحافظ من جهة على تماسكها المنطقي الداخلي، ولكي تخرج من عزلتها وانغلاقها وانفتاحها على فروض نظرية جديدة. إن تعدد الاختبارات هو معيار علمية النظرية وعلامة قوتها. غير أن الطابع التركيبي والشامل للنظرية، يجعل من المتعذر التحقق من صدقها أو كذبها بواسطة التجربة، لذلك فمعيار الحكم على علمية نظرية ما هو قابلية منطوقها وبنائها النظري للتنفيذ أو التكذيب. فعلى النظرية العلمية أن تقدم الاحتمالات الممكنة التي تفند بها ذاتها. عليها أن تكن معرضة للخطأ والتكذيب، أفضل من أن تدعي اليقين المطلق. لأنه لا علم بدون أخطاء.