الحق بين الطبيعي والوضعي
مفهوم الحق والعدالة: العدالة كأساس للحق
العدالة بين المساواة والإنصاف
تقديم
يعبر مفهوم الحق عن قيم أخلاقية إنسانية أساسية كالعدالة والواجب والحرية والمساواة والإنصاف، يندرج مفهوم الحق والعدالة ضمن المجال الإشكالي للمشروعية السياسية، تحكم هذه القيم (الحق والعدالة، الحرية، المساواة…) دولة الحق في مبادئها ووظائفها وغاياتها.
لا يمكن فصل مفهوم الحق عن أشكال تجسيداته داخل الدولة، وممارسته والعمل على أرض الواقع… فهو قيمة إنسانية، أخلاقية، اجتماعية، سياسية أساسية، هو شرط تحقيق إنسانية الإنسان، لأنه يتضمن كل القيم المثلى، والفضائل وتطلعات الإنسان وآماله في الحرية والمساواة والعدالة والديمقراطية والإنصاف.
إن الحق يعبر عن العدل والقانون والمشروعية في مقابل الظلم والعنف والطغيان والاستبداد.
تاريخيا، ارتبط مفهوم الحق فلسفيا بالفاعلية الإنسانية، الحرية والكرامة الإنسانية مع عصر الأنوار، حيث بدأ اهتمام الفلسفة بالبحث في مفهوم الحق كفكرة ومبدأ وممارسة، ومن الإشكالات الفلسفية التي عالجها التفكير الفلسفي التساؤل عن أساس الحق، ما هو الأساس الذي يقوم عليه الحق: طبيعي أم وضعي؟ هل يستمد الحق قودته من الإكراه أو الإلزام القانوني أم من الأخلاق والطبيعة الإنسانية؟
المحور الأول: الحق بين الطبيعي والوضعي
يعتبر الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يتميز بوجود مزدوج، ينتمي إلى الطبيعة مثلما ينتمي إلى الثقافة، يحدد كلود ليفي ستروس الطبيعي، بما هو عام ومشترك بين أفراد النوع البشري، والثقافي بما هو خاص ونسبي، فهل الحق طبيعي أم وضعي؟ هل للفرد حقوق طبيعية ثابتة وسابقة على القوانين الوضعية أم أن الحق وضعي يستمد أساسه من المجتمع وخصوصياته الثقافية؟
أطروحة توماس هوبز
إذا كان حق الطبيعة يعني تلك الحالة الطبيعية التي كان الإنسان يتمتع فيها بحرية مطلقة، مما يؤدي إلى حالة « حرب الكل ضد الكل » فإن العقل الإنساني، بناء على قانون طبيعي، اكتشف قاعدة ضرورة التنازل عن الحرية المطلقة وتعايش الإنسان مع غيره حفاظا على سلامته وأمنه، في إطار توافق اجتماعي.
أطروحة جون جاك روسو
يتجاوز روسو، أطروحة « الحق الطبيعي » القائم على القوة والعنف لأن الإنسان خير بطبعه. وحالة الطبيعة باعتبارها حالة افتراضية، تشير إلى تلك اللحظة التي كان يتمتع فيها الإنسان بحق الطبيعة، لكن التغيرات التي طرأت على حياة الإنسان فرضت عليه الدخول في شراكة اجتماعية توجت بعقد اجتماعي يحفظ لكل فرد حقوقه المدنية السياسية.
خلاصة واستنتاج
يؤكد التصور الطبيعي التعاقدي أن « حالة الطبيعة » تهدد حياة الإنسان واستقراره وهذا ما يدفعه إلى التفكير في أن يعيش حياة مطابقة لمقتضيات العقل وممارسة الحرية في حدود ما يسمح به العقل والتعايش مع الغير، الحق إذن لا يتأسس على القوة والغرائز، لأنه سيتحول إلى ظلم وجور، إن قوامه الأنوار الطبيعية للعقل، لأنه عن هذا الطريق فقط يمكن إحلال الاتفاق والتعاقد محل الاختلاف والصراع والتنافر.
لكن ألا يؤدي الانتقال من حالة الطبيعة إلى حالة المجتمع المدني التعاقدي إلى فقدان الإنسان لحقوقه الطبيعية (الحرية، الحياة، الكرامة…)؟
الواقع أن الحقوق الطبيعية هي أساس وقاعدة كل الحقوق المدنية، ذلك لأنه لا يمكن أن نتحدث عن حق الإنسان في المساهمة في اتخاذ القرارات (كالحق في التصويت)، أو الحق في الاستفادة من الخدمات الاجتماعية (الحق في التعليم والصحة والشغل…) وهي حقوق مدنية بإلغاء وإقصاء الحق في الحياة أو في الحرية أو إهانة كرامة الإنسان، وهذا ما يؤكد عليه الميثاق العالمي لحقوق الإنسان الذي جعل من كرامة الإنسان أساسا لحقوقه المدنية الاجتماعية والثقافية…
في مقابل التصور التعاقدي الذي يدافع أصحابه عن الحق الطبيعي، يرفض أصحاب التصور الوضعي، كل حديث عن أساس طبيعي للحق (ليو ستروس) فلا وجود لحق، غير الحق الوضعي، المستمد من القوانين والتشريعات الوضعية، فالحق لا يستمد قوته الإلزامية، إلا من القوانين التي تعبر عنه وتحتم العمل به، لأن « الحق يقول القانون والقانون يقول الحق… » ولأن قيام الحياة الاجتماعية على الحق يعني خضوعها لقوانين وضوابط تؤطر وتقنن سلوكات الأفراد وعلاقاتهم، إذن فالقانون قوة إلزام ضرورية لترجمة الحق إلى معيش اجتماعي، وهكذا تختلف القواعد والقوانين باختلاف المجتمعات، مما يؤكد أن الحق مفهوم نسبي، لنسبة مبادئ وأولويات واختيارات كل مجتمع.
المحور الثاني: العدالة كأساس للحق
ما علاقة الحق بالعدالة؟
إذا كان الحق قيمة أساسية ومثلا أعلى، فما الذي يحفظ استمراريته؟ وما هي أليات تحقيقه على أرض الواقع؟
أطروحة أرسطو
العدالة حسب أرسطو، تتحدد بالتقابل مع الظلم، فالعدالة تعني السلوك وفق القوانين، ورعاية المساواة، والظلم هو السلوك اللاقانوني والمنافي للمساواة، فالقوانين تشرع الأفعال وتستصدر الأحكام غاياته حماية المصلحة العامة، وتحقيق سعادة الجماعة البشرية، إذن فالعدالة فضيلة كاملة « كل الفضائل توجد في طي العدل ».
أطروحة اسبينوزا
قد ينتهك الأفراد القانون، لكن الدولة لا يمكنها أن تنتهك القانون باعتباره هي العدل، والضامن لاستمرارية العدالة، إن العدالة هي تجسيد للحق وتحقيق له، فلا يوجد حق خارج عادلة قوانين الدولة.
خلاصة واستنتاج
نستخلص مما سبق أنه لا يمكن الحديث عن الحق والعدالة خارج سلطة القوانين وسلطة المؤسسات التي تنتجه، لكن إذا كان الحق يروم تحقيق العدالة، فإن القانون يعبر عما هو شرعي انطلاقا من النصوص المتواضع عليها، لكن ما هو قانوني ليس بالضرورة حقا، قد يكون ظلما، يؤكد ستروس أنه يستحيل الحديث عن وجود معيار مطلق يمكن الاعتماد عليه للتمييز بين ما هو عادل وما هو ظالم لأن لكل مجتمع مثله ومبادئه، فضلا عن تغير هذه المثل أو المبادئ بتطور المجتمعات وخصوصياتها، إذن فالحق نسبي بنسبية المبادئ التي تقوم عليها، من هنا حاجة الحق والعدالة إلى الأخلاق.
تقوم العدالة حسب أرسطو على مبدأين هما: المساواة، ومعناه أن الجميع يخضع للقانون بدون تمييز، ومبدأ الإنصاف، وهو أن يمنح كل فرد ما يستحقه بغض النظر عن منطوق القانون، فقد تقع العدالة في أخطاء عندما تطبق عمومية قوانينها على الحالات الخاصة؟، لكن الإنصاف وحده يكيف قوانين العدالة ويجعلها تستقيم مع تلك الحالات الخاصة.
المحور الثالث: العدالة بين المساواة والإنصاف
إذا كانت العدالة تسعى إلى تحقيق المساواة بين جميع أفراد المجتمع فهل تستطيع إنصاف كل الناس؟
أطروحة راولس
راولس فيلسوف أمريكي 1921-2002) تقوم العدالة على قاعدة أو مبدأ الإنصاف، وهي قاعدة تقضي من جهة حق كل الأفراد في الاستفادة بالتساوي من نفس الحقوق الأساسية، ومن جهة ثانية عدم وضع عوائق أمام أولئك الذين بحكم مواهبهم الطبيعية أو ظروفهم، يوجدون في وضع أحسن، شريطة أن يكون لباقي الأفراد حق الاستفادة أيضا من هذا الوضع.
أطروحة ماكس شيلر
ماكس شيلر فيلسوف ألماني (1874-1928) يتحدث عن المساواة الجائزة، لأن العدالة المنصفة هي التي تراعي اختلافات الناس وتمايز طبائعهم وقدراتهم واستعداداتهم ومؤهلاتهم، فالناس يتفاوتون فيما بينهم تفاوتا إيجابيا وخلاقا، ومن الجور حسب شيلر الإقرار بمساواة مطلقة، كما تنادي بذلك الأخلاقيات الحديثة.
خلاصة واستنتاج
إن الحق كقيمة إنسانية وأخلاقية عليا، يروم تحقيق العدالة، لأن العدالة تجسيد للحق وتحقيق له، ولا يوجد الحق خارج القوانين والمؤسسات والتشريعات، وتعتبر الدولة هي الضامن للعدالة لأنها هي التي تمثل القانون كقوة وسلطة إلزام، يخضع لها الجميع على أساس مبدأ المساواة، المساواة بين جميع الأفراد: بين الراشد والطفل، بين الرجل والمرأة، بين الفقير والغني… فلا حق إذن بدون مساواة، وقد تتطابق العدالة مع الإنصاف، وقد ترغب فيهما معا، لكن مع ذلك، فالأفضل هو الإنصاف، فهو الشرط الأساسي لتصحيح ما يلحق العدالة من أخطاء، عندما تطبق عمومية قوانينها على الحالات الجزئية والخاصة، فالإنصاف يكيف قوانين العدالة، ويجعلها تستقيم مع الحالات الخاصة، على هذا الأساس أكد راولس أن العدالة تقوم على قاعدة الإنصاف، وهي قاعدة تقتضي من جهة حق كل شخص في الاستفادة بالتساوي (المساواة) من الحقوق الأساسية، ومن جهة ثانية اعتبار اللامساواة الاجتماعية مقبولة عقليا، إذا سمح لجميع الأفراد ببلوغ مراتب ووظائف عليا في المجتمع (تكافؤ الفرص).
إذا كانت العدالة تؤسس الحق، على أساس من احترام القانون كسلطة إلزام، فما علاقة الحق بالحرية؟ متى تتحقق الحرية في إطار التشريعات والقوانين المعمول بها في المجتمع؟
قد يحدث التعارض بين الحرية والقانون، عندما تتجاوز الحرية الفردية القانون، وتمزق مبادئ الحق المعمول بها في المجتمع، أو عندما يتم تجاوز حرية الآخر، لأن حرية الفرد تنتهي عند حرية الآخر. وتتحقق المحافظة على الحريات عندما تطبق القوانين، ويتم الفصل بين السلط، حيث تصان كرامة الإنسان وتحصن حريته، فيصبح الإنسان حرا وخاضعا بطواعية ومسؤولية لروح القوانين.
لا تعني الحرية الفوضى، بل هي التزام بالقوانين، تفاديا للخروقات والتجاوزات التي قد تصدر عن الفرد، كما تصدر عن المؤسسة، إذن دولة الحق هي الضامنة قانونيا لكرامة الإنسان، وصيانة حقوقه بواسطة فصل السلط وتدبير الشأن العام بواسطة هيئات تمثيلية ومنتخبة ديمقراطيا.